الأربعاء، 5 فبراير 2020

سايكس بيكو، وقصة العرب والنمل

بقلم: علي طه النوباني
لاحظت منذ زمن أن النملة لا تتجاوز خطا ً يرسم أمامها، وتعززت الفكرة لديَّ عندما شاهدت مادة فيلمية تتحدث عن نوع من الطباشير يستخدم لقطع مسار النمل ومنعه من إزعاج الناس في بيوتهم.
وكثيراً ما يتحدث الناس عن أحد الزعماء الذين عاشوا هنا في جرش قبل ما يقارب مائة عام، يروون عنه أنَّه كان إذا غضب على شخص؛ يرسم حوله دائرة بعصاه، ويُعلمه أنه محبوس فيها حتى إشعار آخر. ويقول الرواة إن المحبوسين في الدوائر الوهمية كانوا لا يخرجون من تلك الدوائر إلا عِند تَلَقي الأمر بالعفو، بل إن بعضهم كان يرسل من يتوسط له عند الزعيم لإنهاء محكوميته، فكان الزعيم يصفح عن البعض ويطيل العقوبة للبعض الآخر كما يشاء.
بريطانيا وفرنسا لم تبتعدا عما كان يفعله هذا الزعيم، رسمتا خطوطا وهمية في بلادنا؛ فانحبسنا فيها، فدولة بلا وجه على البحر، وبحر بلا دولة، وثروات بلا شعوب، وشعوب بلا ثروات. ولم يراجع النمل في بلادنا العربية نفسه في مدى صحة تلك الخطوط الوهمية وضرورة إلغائها أو تعديلها، بل أخذ يبني عليها هويات محلية وسمات عرقية وتوازنات وتحالفات من أجل حمايتها والذود عنها.
ولكن، هل تشبه الشعوب العربية النمل في كل شيء؟
مع الأسف، إننا لا نشبه النمل إلا بالتزامنا الشديد بالخطوط الوهمية التي رسمها الباشا. النمل يعمل بلا كلل ولا ملل ولا يأكل تعب غيره دون حق، أما شعوبنا المشوَّهة فلا تفوت فرصة لنهب حقوق الناس والركوب على ظهورهم المحنية، بل إنها تقلب الأبيض أسودَ لتحصل على لقمة مريحة دون عمل حتى تشكلت طبقة من العواطلية الذين يعيشون على تعب غيرهم وكدهم، وصار أقصى ما يطمح إليه العربي أن يصبح عواطلياً محظياً لدى السلطات.
والنمل يمتلك نظاما متكاملا وصارما حتى أنه يخصص غرفاً خاصة للنفايات في مملكته، أما كياناتنا المتهالكة فتتميز بأن الإنسان يشبعك حديثاً عن حب الوطن، ويلقي نفاياته في شوارع الوطن حتى إذا ما هبت الريح أصبح الغيم أسود لكثرة أكياس النايلون السوداء المتطايرة في فضائه.  
من المعروف أن الفكرة القومية وما انضوى تحتها من مشاريع وحدوية قد نشأت بعد انهيار الرجل المريض/ الدولة العثمانية، فظهرت مشاريع الوحدة العربية كمشروع سوريا الطبيعية ومشروع المغرب العربي الكبير، ونظر بعض الوحدويين إليها على أنها خطوة نحو الوحدة العربية. لكن الإمبريالية كان لها مشروعها أيضاً في المنطقة، وهي تملك من الخبرة والوقت ما يكفي لاختراع آليات تقويض أي مشاريع تهدد مصالحها، وخاصة أنها تتعامل مع شعوب رزحت تحت الاحتلال العثماني مئات السنين. وقد استطاعت الإمبريالية بقيادة بريطانيا بكل دهاء ضرب هذه المشاريع، وكانت أبرز الأدوات التي اخترعتها، وعملت على تنشيطها فكرة الوحدة الإسلامية في مواجهة الوحدة العربية، حيث قدمت خياراً عاطفياً مستحيلاً ودعمته في وجه خيار واقعي ممكن، وقامت كذلك بزراعة جسم صهيوني غريب في فلسطين الساكنة في قلب الوطن العربي.
ومنذ ذلك الوقت التزم النمل داخل خطوط بريطانيا الوهمية محتجاً في الغالب بأولوية اتحاد مسلمي الجزائر مع مسلمي أندونيسيا على اتحاد بلاد الشام مثلاً، ورأت الكوليونالية أنَّ شعوبنا تبلع الطعم بسهولة فائقة، فدعمت الإسلام السياسي في وجه القوى الوطنية التحررية، وذهبت إلى أبعد من ذلك حين استطاعت تجنيد الإسلام السياسي لصالحها كما حدث في أفغانستان، فكان عاملاً رئيسياً في انهيار الاتحاد السوفييتي، وعودة عالم القطب الواحد، قطب الرأسمالية البشعة بكل ما تعنية من قسوة ووحشية، وكان لنا نحن العرب شرف المساهمة الكبرى في دعم الإمبريالية التي حرمتنا من كلّ بارقة أمل لاحت في أفقنا الحزين البائس في واحدة من أغرب المفارقات في التاريخ الإنساني.
وهكذا ذاب عقل النمل في ما قدمه له السيد الأبيض من تعريفات، فمسؤولية تحرير فلسطين تقع على عاتق الفلسطينيين بعد كل الملابسات التي دارت أثناء تسليم فلسطين، وبعد أن أصبح الشعب الفلسطيني مثل ملح الأرض منشوراً في أصقاعها من القطب الشمالي إلى نيوزيلاندا.  نعم باسم خطوط سايكس بيكو التي صنعت الوعي العربي التافه المستلب؛ أصبحت فلسطين مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، ومن يدري أي بلاد عربية أيضا ستصبح في الأيام القادمة مسؤولية ساكنيها وحدهم.
وعلى الرغم مما وصل إليه الإنسان العربي من ضآلة وفشل ذريع، فهو حتى اليوم لم يحقق أي شكل من أشكال الدولة الحديثة: فلا سيادة للقانون، ولا الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية ولا سعادة ولا رفاه، على الرغم من ذلك كله ما زال العربي يرخي أذنه لذات الأطراف التي أفقدته البوصلة منذ البداية، وبذلت الغالي والنفيس لدفعه إلى تيه الضياع والفشل.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: إذا كان كل ما حدث في عالمنا العربي منذ ما يزيد عن قرن غير كاف لإقناعكم بأن الدول الاستعمارية ذاتها ما زالت تواصل الليل بالنهار لسحقنا والاستيلاء على ثرواتنا وتعيين إسرائيل حاكمة لمنطقتنا بأسرها، فما هو الذي يقنعكم؟
وعلى أي حال يا عالم النمل، هذا هو الضابط الإنجليزي والأمريكي يجهز قلمه لإعادة رسم الخطوط، فحضروا أنفسكم لإعادة تشكيل الهويات وبرمجتها كما يريدها السيد الأبيض ذو العيون الزرقاء واللكنة الأجنبية، وحضروا أنفسكم لقتل مثقفيكم ومناضليكم ومبدعيكم، واستعدوا أيها النمل للصلاة على الخطوط التي يرسمها لكم الأبيض لقطع مدنكم وقراكم وحقولكم، فلا حاجة لكم بإنتاج المعرفة، السيد الأبيض سينتجها لكم، لتموتوا بالجملة غوصاً فيها. فهنيئاً لكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق