الاثنين، 9 يوليو 2018

المثقفون الديمقراطيون العرب بين المطرقة والسندان


بقلم : علي طه النوباني
تسعى بعض الحكومات العربية ضمن برامجها التظاهرية الزائفة إلى دفع بعض رجالاتها الذين تربوا في تكاياها، وتلقوا تعليم النصب والاحتيال في زواياها، إلى تأسيس أحزاب ديمقراطية علمانية تكون مكمِّلة لصورة المرحلة، وباعثاً على تصديق أكذوبة الإصلاح والتغيير التي تبثها الأنظمة العربية أمام العالم من جانب ، ومن جانب آخر تكون طرفاً في الشد والجذب المتبادل، والذي ينشأ عنه تحالف بين الإسلاميين والحكومة ضد الديمقراطيين تارة ،وبين الديمقراطيين والحكومة ضد الإسلاميين تارة أخرى ، وهكذا تبقى الفعاليات الشعبية بكافة أطيافها رهناً للغزل مع الحكومة ؛ وفي حالة انتظار دائم لغمزة من طرفها الشارد الذي يحدد لأي طرف من الأطراف فرصته الذهبية لجني المكاسب على حساب غيره بعيداً عن الموضوعية والأخلاق .
وضمن شروط اللعبة المعروفة للجميع ؛يندفع عدد كبير من قناصي الفرص، والمصابين بالتخمة إلى تأسيس مثل هذه الأحزاب ، فترى بينهم المحافظ السابق، والوزير المتقاعد، وضابط المخابرات، والإعلامي المنافق ، يجمعهم على ذلك طلب القرب من الحكومة، والبحث عن المكاسب والزعامة والمشيخة .
وفي هذه المعمعة يقف المثقفون  الديمقراطيون حائرين وعاجزين  عن اتخاذ أي قرار : هل يمكن أن يكون انتسابهم لمثل هذه الأحزاب مجدياً ؟ وأي نوع من الحوار يمكن أن يدور مع عدد وافر من الأفاقين والمتكسبين ؟ وهل هنالك أية فرصة في هذه الظروف لعمل شيء من أجل الديمقراطية والعدالة وتغيير الواقع المرير .
إن واحدة من أخطر المشاكل في هذا الشكل الحزبي الأقرب إلى شكل الدولة العربية المشوّه، هو أن هؤلاء المتكسبين والأفاقين أكثر قدرة على الحركة، وأوفر قدرة على الاتصال والتنقل بحكم مكتسباتهم المشروعة وغير المشروعة التي حققوها بسبب صلتهم الوثيقة بالدولة ، في حين أن المثقفين الديمقراطيين يكادون يتسوّلون بسبب شدة الفقر والبؤس ومرارة الحصار والتهميش وشظف العيش . والأنكى من هذا كله أن الفكر والثقافة الملتزمان بموقف أخلاقي لم يعودا يشكلان مصدراً للقبول الاجتماعي الذي يضمن تأثيراً في السواد الأعظم من الناس ،بل لقد أصبح النفوذ والقدرة على إبراز المظهر الخارجي جالباً للقبول والتأثير في المجتمع ، وبات الحديث في العمق فلسفة لا معنى لها وسباحة ضد التيار أو حملاً للسلم بالعرض . 
إن هذه الطائفة الواسعة من الأفاقين والمتكسبين الذين يشاركون الديمقراطيين في مؤسساتهم وأحزابهم، بل ويسيطرون عليها، لا يعرفون عن الديمقراطية شيئاً سوى أنها تتضمن بالضرورة كشف زيفهم، وتعرية خوائهم، واقتلاع أنيابهم المسمومة،ومساواتهم بالصعاليك ، ليعودا مواطنين عاديين، أو حتى من أرباب السوابق بما ارتكبت أيديهم ذات يوم في حقّ الناس ومصالحهم ، وهذا ما يجعل المثقف الديمقراطي العربي مطالباً بالعمل مع ألدّ أعدائه داخل مؤسسة واحدة، ولكن بأهداف وظروف متناقضة إلى درجة التضاد .
لقد عايشت في أكثر من تجربة حوار الطرشان الذي يدور في أروقة مثل هذه الأحزاب، والكمّ الهائل من الشعارات والتوابيت الفارغة التي يتم قذفها على الطاولة ، والرؤية التلفيقية الباعثة على الغثيان التي يتم تداولها بعقلية تفوق الأنظمة العربية رجعية وتقهقراً ، والصورة الكاريكاتورية المفرطة في الهزلية التي يظهر بها المثقف الديمقراطي عندما يحاول الحديث بعلمية وموضوعية في حشد ممن يجمعون بين التكسب والنفوذ والتماهي في الفردانية والاستعراض الأجوف ، حتى لقد أصبح شرح النظرية النسبية، أو تخيل ماهية الثقوب السوداء، أسهل بكثير من إقناع مثقف ديمقراطي بخوض تجربة حزبية؛ أو تنظيمية في هذا الواقع المتشظي الذي يدفع كل بذرة إيجابية إلى التقوقع والانعزال.
وإنني هنا أتساءل : كيف يمكن للمثقف الديمقراطي الملتزم أخلاقيا أن يساهم في دفع أفراد مجتمعه إلى القرار الصعب الذي يتحدث عنه المفكر العربي الكبير برهان غليون *: (... ولا يمكن للفئة الحاكمة ولا للمعارضة ولا للدول الكبرى أن تغير من سلوكها وتراجع نفسها ما دام أفراد المجتمع، كبيرهم وصغيرهم، لم يقرروا بعد الارتفاع إلى مستوى الحياة الأخلاقية والانخراط، كلاً حسب طاقته وإمكانياته، داخل الدوائر الرسمية وخارجها، في معركة التحرر من عقيدة الموت وطقوسه وتقاليده، أعني من إرث نظام موت المجتمع والسياسة والقانون والأخلاق معا).
إنني أرى الصعوبة البالغة لرسالة المثقف الديمقراطي العربي القابض على رسالته الأخلاقية، وألمس حجم التضحيات المؤلمة التي يعانيها،كما أرى أن مفكرينا الكبار يتقنون تحليل الواقع بقوة بالغة؛ ولكنهم يبخلون علينا بمشاركتنا في التفكير في كيفية الخروج من هذه الحالة القاسية التي تطحننا، وتغلق آخر الثقوب المفتوحة في وجوهنا ، ولا يكون ذلك إلا بالدخول في أدق تفاصيل مأساتنا لنتعاون معا في الحصول على بعض الإضاءة في هذا الواقع المظلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مقالة له بعنوان (في جذور العطالة السياسية في المجتمعات العربية).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق