السبت، 2 فبراير 2019

كثرة الشعراء، وقلة العلماء


بقلم: علي طه النوباني
يتزايد عدد الشعراء في العالم العربي على نحو جنوني، ويكاد عددهم يفوق عدد السكان.
صحيح أنَّ الشعراء الكبار معروفون إلى حد بعيد، لكنَّك لا تكاد تجلس مع عربي إلا أسرَّ إليك أن لديه ديواناً مخطوطاً أو محاولات شعرية مكتوبة يحتفظ بها بين أوراقه، ولكي لا أظهر وكأنني أحجر على حرية أحد؛ فأنا ومن البداية أقرّ للجميع بحرية الرأي وحرية التعبير بما في ذلك الشعر والرسم وحتى الرقص، وبخاصة أنني واحد من هؤلاء الذين يكتبون الشعر، ولكني أتساءل عن أسباب هذه الظاهرة، وهل هي طبيعية أم ناتجة عن ظروف غير طبيعية وأوضاع شاذه يعيشها الإنسان العربي.
لا بدَّ في البداية أن أشير إلى واحد من الأسباب المهمة، وهو أنَّ للشعر مكانة كبرى في الثقافة العربية لا مجال هنا للتوسع في بحثها، لكنَّني أجزم أنَّ رغبة الناس في هذه الأيام في قول الشعر تفوق رغبتهم في قراءة أشعار الكبار وتجاربهم! فما هو السبب وراء ذلك؟
ضمن الفشل الذريع للأنظمة العربية في تشكيل الدولة الحديثة القائمة على تشجيع الإبداع في كافة مجالاته العلمية والثقافية والأدبية؛ لم يجد المواطن العربي طريقة أسهل من الحرف للتعبير عن طاقاته المخنوقة الكامنة والتي لم تجد من يتبناها؛ فكلّ الأدوات اللازمة لقول الشعر – من منظور المواطن البسيط – هي قلم وورقة، وقد استغنى العربي عنهما بعد حصوله على الهاتف الذكي، فكل ما عليه هو أن يكتب هذيانه وأحزانه حول الفشل المفروض عليه من الأنظمة العقيمة بأصابعه على مواقع التواصل الاجتماعي شعراً معمّىً لا تستطيع السلطة ملاحقته قانونيا بسببه، ودونما حتى قلم وورقة!
استأثرت السلطة لمن يوالونها بفرص التعليم الحقيقية بغض النظر عن قدرتهم على الإبداع، وانكفأ الموهوبون والمبدعون في شتى المجالات راضين بما يتاح لهم من قبيل وظيفة تافهة أو بسطة خضار أو غير ذلك، وحصلنا على مجتمع يُفرض عليه الفشل بالقوّة، وتباد أحلامه بالجملة.
مبدع في الفيزياء أو الرياضيات أو الطب.... لم يجد من يأخذ بيده ليصبح عالماً يخدم الإنسانية ويكتشف ويخترع؛ فوجد نفسه بائع خضار أو عاملا في محل ألبان تقتله الحسرة فيستلهم حزنه شعراً ويبكي مجداً قتلته أنانية السلطة وفوضى غياب الدولة الحقيقية التي يجب أن تنقل الناس من الغابة إلى فن الاجتماع وليس أن تمعن في فنون الافتراس.
كل هؤلاء الذين يقتنون دفاتر تحتوي قصائد مهلهلة وحزينة كان يمكن أن يكونوا علماء مبدعين ينهضون بحضارتنا من جديد لو أتيح لهم دولة حقيقية تقيم العدالة، وتشجع الإبداع، وتعظم حرية التفكير، وتحترم حقوق الإنسان القائمة على العدالة والمساواة، فكم هي خسارتنا كبيرة، وكم هي فاجعتنا مأساوية تفوق كل القصص الحزينة التي قرأناها.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق