الأحد، 29 مارس 2020

تخدير الناس؛ وتعليم الناس


بقلم: علي طه النوباني
أذكرُ أنه قبل عشرين عاما تقريبا تَقدَّمَتْ الكوادر الصحية بطلب إلى الحكومة لزيادة رواتبهم وتحسين أوضاعهم؛ فكان ردّ مسؤول حكومي بارز في ذلك الوقت: إنَّ الذين ينورون الناس أولى ممن يُخَدِّرونهم، وقد قصد بذلك أن العاملين في قطاع التعليم أولى بالزيادة وتحسين الأوضاع من العاملين في القطاع الصحي، وقد أعجب الناس ببلاغة ذلك المسؤول في ذلك الوقت، وبقي العاملون في القطاع الصحي في آخر سلم أولويات الدولة، فليس لهم مكافأة نهاية خدمة، وليس لهم مشاريع إسكان، ولا صناديق ادخار، ولا منح جامعية، وليس لهم أيُّ مزايا وظيفية إلا القليل القليل.
وقد شاءت الصدفة أن عملت محاسبًا في القطاع الصحي لما يزيد على عشرين عامًا؛ وكنتُ أخاف قدوم فصل الشتاء حيث الأنفلونزا والرشح ونزلات البرد، كان عملاؤنا جميعُهم من المرضى، وقد كنا نقضي فصل الشتاء كاملا بين رشح وأنفلونزا، وغير ذلك من مخاطر العدوى.
والآن وفي معمعة هذه الأزمة العالمية التي نتجت عن وباء فيروس كورونا، تتقدم الكوادر الصحية إلى الصف الأول في مواجهة الوباء غير عابئة بالإنكار والجور الذي حاق بهم في العقود السابقة؛ متناسين تهمة أنّهم يخدرون الناس التي أطلقت جزافا، وذهبت مثلا خاطئا يُخفي حقيقة أنهم يخففون آلام الناس، ويقفون في الصفوف الأمامية يواجهون الخطر من أجل حماية بلادهم ومجتمعاتهم.
لست هنا في وارد أن أنكأ الجراح، ولكنني أبحث عن دروس وعبر نستفيد منها في أيامنا القادمة، فليس هنالك قطاع في المجتمع أهم من غيره، الجندي يدافع عن الوطن، والمعلم ينشئ الأجيال، والكوادر الصحية تتصدى للأوبئة والأمراض، ورجال الاقتصاد والتجارة يفتحون الفرص للتشغيل والعمل لعلاج البطالة وتحريك عجلة الإنتاج، وعمال النظافة يحافظون على البلاد مشرقة ونظيفة، وإذا ما وجدتم قطاعا غير ضروري فالأحرى بكم إلغاؤه من المجتمع إن صحَّ ذلك، فالمجتمعات لا توجِد دورًا ما إلا إذا كان ابن الحاجة، و(كلما أنـبـتَ الـزمانُ قناة، ركـب الـمـرء في القناة سنانا)، والحديث هنا عن الأدوار التي توجدها المجتمعات استجابة لحركتها الحرَّة، وليس الأدوار التي توجدها الدول قسراً من أجل تلبية احتياجات محاسبيها ومُـتَـنَـفّعيها الذين يبقون عالة على الناس والمجتمع.
وفي الختام، نتمنى لكوادرنا الصحية في بلادنا العربية أن يلهمهم الله القوة والصبر في مواجهة هذه الظروف القاسية التي تغلف عالمنا بالخوف والتعب. كما نتمنى على حكوماتنا أن تتذكر هذه الوقفة الشجاعة في مقبل الأيام، وإذا كنت غير قادر على منح الامتيازات والدعم، فأقلها أن تمنح الكلمة الطيبة التي تقوي العزيمة وتشدُّ الأزر.
علي طه النوباني/ روائي وشاعر من الأردن





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق