الخميس، 25 يناير 2024

قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية تكشف أيضاً الولايات المتحدة والغرب

 

كتبتها: مارغريت كيمبرلي، محرر تنفيذي في موقع BAR (Black Agenda Report) وكاتب عمود

 17 يناير 2024

ترجمها عن الإنجليزية: علي طه النوباني

إن اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية من قبل جنوب أفريقيا يثبت أن هذه الكلمة الخطيرة للغاية يجب أن تستخدم في كثير من الأحيان بدلاً من التعامل معها على أنها نادرة. لقد ارتكبت الولايات المتحدة ودول الغرب عددًا لا يحصى من عمليات الإبادة الجماعية، ويجب وصف أفعالهم على هذا النحو.

في 11 كانون الثاني (يناير) 2024، بدأت محكمة العدل الدولية في الاستماع إلى تهمة الإبادة الجماعية التي وجهتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد دولة إسرائيل. لقد صادقت إسرائيل على اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي فهي ملزمة بالتمسك بمبادئها. ليس من الصعب العثور على تعريف الإبادة الجماعية، كما أنه ليس من الصعب فهمه.

في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي، أو الجزئي، لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه:

قتل أفراد الجماعة؛

التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضاء المجموعة؛

تعمد فرض ظروف معيشية على المجموعة بهدف تدميرها الجسدي كليًا أو جزئيًا؛

فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة؛

نقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى

ومن الواضح أنَّ قطع المياه والكهرباء، وقصف المستشفيات، ومنع المساعدات الغذائية والطبية، كلها تندرج ضمن هذا التعريف. ولم تكتف إسرائيل بارتكاب هذه الأفعال علناً فحسب، بل إن مسؤوليها يتفاخرون علناً بارتكابهم هذه الأفعال، ويجعلون من السهل إثبات قضية جنوب أفريقيا.

ولكن، هنالك نقطة أخرى يوضحها هذا التعريف، وهي أن الولايات المتحدة ارتكبت وترتكب جرائم إبادة جماعية محليًا ودوليًا. وبالطبع فقد لعب السود الدور الأكبر في إثارة هذه القضية بدءًا من عام 1951 عندما نشر مؤتمر الحقوق المدنية كتيبًا بعنوان "نحن نتهم بالإبادة الجماعية" ووثق القضية ضد الحكومة الأمريكية. لا تزال هذه الاتهامات سارية لأن السود كانوا المجموعة التي كانت ضحية السجن الجماعي في المقام الأول، وجميع التأثيرات الأخرى للرأسمالية العنصرية، بدءًا من الحرمان من حقوق السكن إلى الرعاية الطبية اللائقة.

وإذا كانت إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، فإن الولايات المتحدة فعلت الشيء نفسه، ودعمت آخرين في ليبيا وسوريا والصومال واليمن وهايتي. هذه القائمة الطويلة من الجرائم هي أحد الأسباب التي جعلت وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومسؤولين آخرين يصفون اتهامات جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بأنها “لا أساس لها من الصحة”. إذا اعترفوا بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل، فإن ذلك لن يفضح مسؤولية الولايات المتحدة فحسب، بل سيتعين عليهم الاعتراف بأخطائهم أيضًا.

يجب ألا يُنظر إلى مصطلح الإبادة الجماعية على أنه ينطوي على نوع من المعايير العالية التي لا يمكن استخدامها إلا في ظروف نادرة. بل على العكس من ذلك، ينبغي استخدامه في كثير من الأحيان حتى يتسنى الكشف عن ذنب الولايات المتحدة. إن الممارسة الأمريكية المتمثلة في فرض إجراءات اقتصادية قسرية، والمعروفة باسم العقوبات، تمنع شعوب كوبا وإيران وزيمبابوي وفنزويلا و30 دولة أخرى من تأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والرعاية الطبية. تعتبر التدابير الاقتصادية القسرية جريمة حرب بحكم تعريفها لأنها تفرض عقابًا جماعيًا على المدنيين.

لقد قدمت جمهورية جنوب أفريقيا للعالم خدمة جليلة، ليس فقط لأنها تكشف خطورة جرائم إسرائيل، بل لأنها تكشف أيضًا كيف تم تطبيع هذه الجرائم في جميع أنحاء العالم. وبطبيعة الحال، ينضم حلفاء الولايات المتحدة مثل كندا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى إنكار مطالبة جنوب أفريقيا. أولاً، يفعلون ما يُطلب منهم لأنهم دول تابعة صغيرة جيدة وموثوقة، لكنهم انضموا إلى جرائم الولايات المتحدة، ولديهم أيضًا تاريخهم الخاص من الإبادة الجماعية.

وقعت أول إبادة جماعية في القرن العشرين في ناميبيا، التي كانت مستعمرة ألمانية آنذاك، في الفترة من 1904 إلى 1908، عندما قُتل الآلاف من شعب الهيريرو أثناء محاولتهم تحرير أنفسهم من الحكم الإمبراطوري. ولم تغرب الشمس أبدًا عن الإمبراطورية البريطانية بسبب وحشيتها التي ارتكبت في الخمسينيات من القرن الماضي أثناء النضال الثوري في كينيا عندما تم استخدام عمليات القتل الجماعي ومعسكرات الاعتقال لإخماد التمرد. إن التدمير المنهجي للسجلات التي وثقت هذه الفظائع هو دليل على ذنب بريطانيا في ارتكاب الإبادة الجماعية.

إن الاهتمام الموجه إلى قضية محكمة العدل الدولية في لاهاي هو فرصة لرفع حجاب السرية والتواطؤ وتوعية العالم بأن الممارسات الطبيعية هي في الواقع إبادة جماعية. كل الحروب والتدخلات التي تراوحت بين تغيير النظام في هايتي إلى الغزو الشامل للعراق وأفغانستان، كانت تهدف إلى تدمير الجماعات الوطنية. ولا ينبغي أن يكون الرد هو التوقف عن استخدام كلمة الإبادة الجماعية، بل جعل استخدامها أكثر شيوعاً. إن القيام بخلاف ذلك يسمح للمذنب بالتصرف مع الإفلات من العقاب.

لقد خلقت جنوب أفريقيا أزمة للعالم، ولابد من الإشادة بها على قيامها بذلك. الآن يعرف الملايين من الناس كيف يتم تعريف الإبادة الجماعية ويعرفون أن دولهم مذنبة بهذه الممارسة. لقد أصبح الآن الخوف أقل بشأن تسمية الأسماء، كما أصبح هناك استعداد أكبر للتحدث بصدق عما هو مقبول في كثير من الأحيان. لقد كتبت دول الغرب الجماعي كما تسمي نفسها التاريخ وتبرأت من نفسها على الرغم من كونها الجناة على مدى قرون. المسؤولون الإسرائيليون مرتكبو جرائم إبادة جماعية، لكنهم ليسوا وحدهم. ويجب محاسبة كل من يساعد ويحرض.

لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط على الرابط أدناه

Black Agenda Report

https://www.blackagendareport.com/south-africas-case-icj-also-exposes-us-and-west

 

السبت، 30 ديسمبر 2023

رسالة إلى أبي رُغال

 

                                                       شعر: علي طه النوباني

تَوارَ فَـإِنَّ سَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوادَكَ بـــادِ

وَوَجهُـكَ أُسُّ خَـــرابِ البِــــــــــــــــــــــلادِ

وَأنتَ خُــــــــــــــــــــــــــواءُ الطَّريقِ وَأنتَ

غِيابُ الهُدى في القُرى والبَوادي

وَأنتَ حِــــــــــــــــــــــــــــدادٌ يُغطّي مَدانا

وَأنتَ غُـــــــــــــــــــــــرابٌ غَفا في الرَّمادِ

وَأنتَ الهَــــــــــــــــــــــــزيمَةُ في كُلِّ فَجرٍ

وَأنتَ الرَّداءَةُ في كُـــــــــــــــــــــــــــــــــــلِّ نادِ

وَلولا نَراكَ تُفرِّخُ شُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤماً

لَكُــنْـتَ عِداداً بِصَـــــــــــــــــــــفِّ الجَمادِ

وهذا التُّرابُ تَناســــــــــــــــــــلَ عِشْقاً

فَلَيسَ يُســــــــــــــــــــــــــــــاكِنُ قَفزَ الجَرادِ

خَذلْتَ المَواسِــــــــــــــمَ والزَّهْرَ لُؤْماً

وَأَطلقْتَ نارَكَ صَـــــــــــــوبَ الجَوادِ

وَيَوماً سَــــــــــــــــــتَهوي جَريحاً ذَليلاً

وَتَفنى وَحـــــــــــــــــــــــــــــــــــيداً بِغَيرِ عِدادِ

وَأُمُّ المَعــــــــــــــــــــــــــــــــارِكِ جاءَتْ مِراراً

فَأَســـــــــبَلْتَ فيها فُصــــــــــولَ الحِدادِ

خَذَلْتَ الرُّجـــــــــــــــــــــــولَةَ وَالحَقَّ لُؤْماً

وَجانَــبْتَ مَجـــــــــــــــــــــداً طَويلَ العِمادِ

وَسَــــــــــــــــــــــــوفَ أُبَدِّلُ جِلدي بِشَوكٍ

إِذا ما سَـــــــــــــــــــــــــــمِعْتُكَ يوماً تُنادي

سَـــــــــــــــأَنفِي المَوانئَ إِنْ كُنــتَ فيها

وَأُطفِئُ فيها شُــــــــــــــــــــــــــــــموعَ الوِدادِ

وَأَقصِــــــــــــــــفُ صَوتَكَ والأُفقُ يَغلي

وَأَكتُبُ وَحدي فُصــــــــــــــــــولَ الرَّشادِ

لِأَنــــــَّكَ مَـــــــــوْتٌ، لِأَنـــِّيَ صَـــــــــــــــــــــــــوْتٌ

لِأَنَّ المَشـــــــــــــــــــــــــــــــــاعِلَ مَجدٌ يُنادي

أقاوِمُ حَشْــــــــــــــدَ الوُحوشِ الضَّواري

وَأَنتَ تُغازِلُ فُجْرَ الأَعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادي

سَــــيَهوي الرَّقيعُ، وَيَعلو الرَّبيـــــــــــــــــعُ

وَتَمضي بِعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارِكَ واداً لِوادِ

وَمِثلُكَ لَمْ تَصـــــــــــــــــــــــــــــــــــطَفيهِ المَثاني

فَأَثــخن طَعْناً ظُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهورَ العِبادِ

دَعَتْكَ الثــُّريا فَأَســــــــــــــــــــــــــــــــــبَلــْتَ جَفْناً

كَســــــــيراً لِتَسْـــــــــــــــــــكُنَ تَحْـــــــــتَ الرَّمـــادِ

فَما نِلْتَ مَـــــــجــــــــداً أَثيـــــراً يُحــــــــــــــــاكى

ولا غِبْتَ عَنْ صَــــــــــــــفَحاتِ السَّـــــــــــوادِ

سَــــنَطوي الرِّســـــــــــــــــــالَةَ والدَّربُ يَبْقى

وُســـــــــــــــــومَ المُحــــــــــــــــــــارِبِ بَينَ الوِهادِ

وَيَكفِيكَ أنـــَّكَ سَـــــــــــــــــــــــــــــــطرٌ قَصـــــــــيرٌ

تـَقـَــنـَّعَ وَحـــــــــــــــــــلاً وَما رَدَّ عــــــــــــــــــــــــــــــــــادي

 


السبت، 23 ديسمبر 2023

غَـــــزَّةُ جَــــنْدَلٌ وَحِصـــــــــــــــــــــــــــــــارُ



                                                             شعر: علي طه النوباني

شَــــــــــخَصَتْ إِليكَ تَوَسَّـــــــلُ الأَنظارُ            

                   يا رَبُّ غَـــــزَّةُ جَــــنْدَلٌ وَحِصـــــــــــــــــــــــــــــــارُ

يا ربُّ غَـــــزَّةُ والدِّيـــارُ كَأَنَّــــــــــــــــــــــــــــــــها               

                    قَلبٌ تَمَرَّغَ بالدُّمــــــــــــــوعِ يُــــثــــــــــــــــــــــــــارُ

جَمَعوا لَها مِن كُلِّ صَوبٍ مُجــرِماً           

                   فَمَضى الـرَّبيعُ، وَأُطفِئَتْ أَنـــــــــــــــــــــوارُ

والكـــــونُ أَصــــــــــبَحَ ناصِلاً مِنْ لَونِهِ              

                     يُردِي الأَبِـيَّ وَيَــــظــــهَـــــــــرُ الخَــــــــــــــــــوّارُ

وَتَجَـــــمَّــــــــــــــــعَ الأَوباشُ حولَ دِيارِنا           

                     فَبَــــــــدا الطَّــــــــــــــريــــــــقُ تَحُــــــفُّهُ الأوزارُ

تأتي الأَوابِــــــــــــــدُ كُلَّما أَغــــــــــــــــــــــرَيْتَها                 

                     فَــتَرى البُغاثَ وَتَنتَحي الأَقمــــــــــــــارُ

 فانطق بما تَروي البنــــادق إنَّهــــــــــــا  

                     بابُ الحَقيقـــــةِ حَيثُمــــا تَحتــــــــــــــــــــــارُ

والنارُ تَقدحُ جِيفَةً مَســــــــــــــــــــمولَةً                 

                     مِن جَفْنِ مَسْـــــــــخٍ حَولَهُ الأَســـوارُ

والنارُ تُحـرقُ أَوجُهاً مَشــــــــــــــــمولَةً        

                      بالخِزيِ تَــنْـبُتُ حَـــــولَها الأقــــــــــــــــــذارُ

والنارُ تَصـــــــــفَعُ ألسـُــــــــــــــــــناً هَدّارَةً                  

                       بالشَّــــــــــــــينِ يَعزِفُ لَحــنَها الأَغــــــيارُ

والنارُ تَفْــرِزُ مالـِـــــكاً مِن زائـِـــــــــــــــــــرٍ        

                         وَسِــــــخٍ تَعاقَبَ جَمْعَهُ الأشـــــــــــرارُ

والنارُ مِنْ ياسينَ يَسمَعُها النَّدى               

                        وَعَلى الصـَّــــــــــــــــدى يَتَفتَّحُ النُّــــــــــوارُ

لِتُغادِرَ الغِـــــــربانُ دَوحَ فَضـــــــــــــائنا               

                       وَتُضيءَ بالشُّـــــــــــــــــــهداءِ هذي الدّارُ

وَلَسـوفَ نَغرفُ فَجرنا مِنْ لَيلِكُم            

                          مَـهما أَقمتـُـمْ أيُّها الفُجـّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارُ

وَلَسوفَ نَمسَحُ خَطوَكُمْ عَنْ أَرضِنا        

                         حتى تَعودَ لِعِشْــــــــــــــــقِها الأَشــــــــجارُ

والنارُ حَرفُكَ إذ تُحدِّثُ مُجْــــــــــــــرِماً              

                        نَــزَقٌ يُـمَـزِّقُ شَـــــــــــــــــــأوَهُ وَغُبـــــــــــــــــــــــــــارُ

والنارُ دَربُكَ والمَرافئ كُــلـــُّــــــــــــــــــــــــــها       

                          نامَتْ، فَأَشــــــــــــــــعَلَ غَيظَها الأبـــــــرارُ

جاءَ المُدَنَّسُ يَبتَغي أَوطــــــــــــــــــاننا         

                          فَرَفَعتَ سَـــــــــــــــــــــــــــــيفَكَ، حَدُّهُ بَــــتّـــارُ

لَمْ تَـــكتَــرِثْ بِحَـــــــديدِهِمْ أو نارِهِمْ          

                         فالحَقُّ أَبلجُ، والخُـــنـــــــــــــــــــــــــــــــوعُ دِثارُ

هذا الترابُ مُنافـِــحٌ عنْ أهـــــــــــــــــلِهِ        

                            مَهما تَعاظَـــمَ صَـــــــــــــــــــــــوتُهُ الهَــــــدّارُ

لَهفي لِغَزَّةَ والأَحِـــــبَّــــةُ كُلـــــُّــــــــــــــــهم              

                             لَبِسـوا السَّوادَ وَوَدَّعوا إذ ســــــــاروا

لهفي لِغَزَّةَ والدُّروبُ تَناثَـــــــــــــــرَتْ              

                            وَرِجالُها فــــــــــوقَ الذُّرى ثُــــــــــــــــــــــــــــوّارُ

إنْ رُمْتَ مَجداً فاقتبِسْ مِنْ سِفرِهِمْ            

                           أَو فاحـتَـطِــبْ مِمّا رَأَى الأَغْـــــــــــــــــــرارُ

تِلكَ المَســــــــــــــــــــــــــالِكُ رُتبةٌ وَمَعــــــــــارِجٌ          

                           تَعـلو وَتدنو بَينَها الأطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوارُ

أَرأَيتَ وَجهكَ وَالعُلـــــــــــــــــــــوجُ تَوافَدوا           

                          وَعَلتْكَ مِنهُمْ ذِلَّةٌ وَصَـــــــــــــــــــــــــــــــــغارُ

ســــــَـــــتُراقِبُ الأَيــّـــــــــــــــام حتّى تَـنتَــــــهي         

                          صِـــــــــفراً، وَيَصنَعَ دَهرَكَ الأَحــــــــــــرارُ

السبت، 18 فبراير 2023

افتعال الصعود الدرامي في فيلم "الحارة"

 

بقلم: علي طه النوباني

يتسلق (علي) من سطح البناية على أنابيب المياه والمجاري في وضح النهار ليدخل غرفة لانا (ابنة الكوافيرة أسيل)، وعلى الرغم من خطورة ما يفعلانه في حيٍّ شعبي محافظ؛ فإنهما لا يقومان بإغلاق الستارة، والتي لا تحتاج إلى شيء سوى حركة بسيطة من يد أحدهما. ولكيلا يقول أحد: لا يوجد ستارة على الشباك؛ فإنه يمكن مراجعة المشهد الذي تؤنب فيه (أسيل) ابنتها لدى تلقيها فيديو الابتزاز ليرى الستارة بوضوح.

وبمناسبة الحديث عن إغلاق الستارة؛ ينبغي أن نتذكر أنه بعد أن ضرب عباسُ علياً؛ وأكد عليه ألا يقترب من (لانا)، يذهب (عليّ) إلى سطح العمارة التي تسكن فيها (لانا) ليعطيها جهاز هاتف نقال ويقنعها بالهرب، وفي تلك اللحظة يرى (عباس) من شباك شقته وهو يضع النقود في القاصة الحديدية، فتلمع في ذهن (علي) فكرة سرقة (عباس). وعباس أيضا هنا يقدم تسهيلات مجانية للمخرج بأن لا يغلق الستارة رغم أنه يخبئ أغلى شيء لديه وهو المال!

يتمكن (صبري) من تصوير (توتو- زوج أسيل ووالد لانا) وهو ينقل جثة (علي) على الرغم من أن مسرح الجريمة (بيت الدرج) ذو إضاءة خافتة، فضلا عن أن جدرانه بنيت من القرميد ذي الفتحات الصغيرة التي لا تسمح بالتصوير إلا إذا افترضنا أن صبري ملتصق على الجدار من الخارج ويمد الزوم في واحدة من الفتحات الضيقة!

وهكذا فإن (صبري) لم يفته حدث مفصلي في حياة أسرة (أسيل) و (توتو) في الليل أو النهار إلا وقام بتصويره، وكأنه يقضي أربعا وعشرين ساعة مقابل شقة أسيل!

 ولماذا شقة (أسيل) بالذات؟ والتي هي كوافيرة عادية جدا كما يبدو من صالونها ومن مكان شقتها وأثاث شقتها. بل إن (صبري) لا يفوته أن يصور مشهد تعرّي (لانا) الذي افتعلته أسيل لاستدراجه، وكأن أسيل تمتلك قدرة بارا سيكولوجية خارقة لدعوته في الوقت الذي تريده.

كيف يمكن ل (صبري) أن يصادف أربعة مشاهد هي الأبرز في حياة لانا وأسرتها؟ وكأن لديه جاسوسا في بيت أسيل! وهل يمكن لعمل درامي جاد أن يقبل هذا العدد الكبير من الصدف؟

لا نحتاج إلى خبرة كبيرة بالأسلحة النارية لنعرف أن حامل المسدس يكون في أقوى حالاته عند الوقوف على مسافة أمتار من الشخص الذي يريد السيطرة عليه، لكن (علي) يضع المسدس على أنف (عباس)؛ فيذعن له عباس على الرغم أن حركة صغيرة وسريعة من قدم عباس أو يده ستجعل (علي) يطلق في الهواء غالبا، وهو تصرف يناسب شخصية (عباس) أكثر من حالة الإذعان التي رأيناه عليها والتي أوصلته إلى أن مزق (علي) لسانه.

يضرب عليٌّ عباساً بكعب المسدس على رأسه؛ فيسقط مغشيا عليه، فيشد وثاقه، ثم يجبره على البوح بالرقم السري للقاصة الحديدية، ويأخذ النقود ويهرب، وعندما تأتي (هنادي) إلى عباس؛ تفك وثاقه بحركة سريعة، وكأنه مربوط بخيط عنكبوت، لقد قرر المخرج أن يحول (عباس) من وحش كاسر إلى نملة هكذا دون أي مبرر أو مقدمات كافية.

وعندما وصل التهديد الأول ل (أسيل) حول مشهد (لانا) مع (علي)، يتغافل الفيلم عن مسألة جوهرية في الثقافة الشعبية، وهي أن تتساءل (أسيل) كأم إلى أي مدى وصلت علاقتها مع (علي)، ثم تقرر أن توافق على خطبتها من شخص آخر دون أي إضاءة على هذا الجانب. هل يقصد المخرج-المؤلف بذلك أن (أسيل) قد لجأت إلى طبيب ليعالج أمر ابنتها؟ أم يقصد أن الأمر لم يصل إلى تلك الدرجة؟ أم يقصد أن أسيل لم تفكر في هذا على الإطلاق خلافا لأي أم تقليدية!

ثم تهرب (لانا) مع (علي)، ويدخلان إلى الشقة المفروشة، ويظهران وهما ينامان على سرير واحد في وضع رومنسي حيث يداعب كل منهما الآخر، وتنتقل الكاميرا نحو اللوحة التي فوق السرير في إيحاء واضح بأن العلاقة قد اكتملت كما اعتدنا في السينما العربية. ويحدث هذا دون أن يحدث أي شيء يوحي بأن زواجا قد حدث.

في اليوم التالي يصحو (علي) فيجد (لانا) تجمع أمتعتها، فيسألها لماذا؟ فتشير إلى المسدس والنقود.

فيجيبها: المال: تحويشة العمر، والمسدس للحماية.

وهي إجابة كافية، فمن الممكن لشخص رسب في الثانوية أن يعمل في شركة كبيرة ويجمع الكثير من المال، ومن المناسب لشخص يخطف فتاة هاربة من أهلها أن يحمل مسدسا.

تصر (لانا) على (علي) أن يقول لها (ماذا يخبئ عنها أيضا؟) بحجة أنه خبأ عنها أنه راسب في التوجيهي، فيعترف (علي) بكل سذاجة بأنه سرق المبلغ من شخص حيوان حسب وصفه. فلا مُبرِّرً الشكِّ كافٍ، ولا استجابة (علي) بهذه البساطة مقبولة، وإنما هي إرادة المخرج مرة أخرى لا إرادة السياق العام لطبيعة الشخوص والمسار الدرامي.

وعلى الرغم من أن (لانا) هاربة من أهلها، وقد نامت ليلة كاملة في حضن رجل غريب، فإن المخرج يشاء لها دون مبرر كافٍ أن تتخلى عن (علي) وتخرج بعناد شديد رغم توسلات (علي)، بل يتبين أنها قد طلبت سيارة أجرة قبل الحوار الذي دار بينهما (وربما طلب المخرج لها السيارة)، فتقفز فيها عائدة إلى أمها!

الأنكى من ذلك أن يتبعها (علي) على الفور حاملا حقيبة وضع فيها مبلغا من المال ليدلّي الحقيبة أمام شباك (لانا) قبل أن تصل (لانا) إلى غرفتها، مع علمنا بأن سبب عودة (لانا) وغضبها من (علي) هو النقود ذاتها! أيُّ توليفة هذه؟ عروس تهرب في (صباحيتها) لأنها اكتشفت أن عريسها راسب في الثانوية ولديه مسدس ومبلغ كبير من المال؟ فيتبعها زوجها ويدلي لها المال الذي تركته بسببه من شباك غرفتها!

مشهدان عبثيان متتاليان، يتبعهما قتل والدة لانا ل (علي) في بيت الدرج والتقاط (صبري) مشهد الفيديو من العمارة المقابلة ومن ثقوب القرميد!

لا تلبث بعد ذلك أن تظهر (لانا) في صالون والدتها وهي تضحك بملء شدقيها على نكتة سمجة قالتها زبونة، وكأن ما حدث معها كان شيئا بسيطا لا يستدعي يومين أو ثلاثة من الذهول في مجتمع لا يرحم.

عندما يعلم الحلاق (بهاء) صديق (علي) بمقتل (علي) يتتبع الشقة التي أقام فيها (علي) قبل مقتله، ويذهب إلى الفندق، فيطلب مفتاح الشقة بحجة أنه من طرف فلان، فيعطونه المفتاح، وهكذا بكل بساطة يدخل الشقة، ويأخذ أغراض (علي) بما فيها النقود والمسدس؟ لقد قبلنا من المخرج – المؤلف أن يتجاهل وجود الشرطة لكي يركز على قيم الحارة، ولكن ليس إلى هذه الدرجة، فقد تجاوز الواقع بشكل كوميدي، وبخاصة أنه أعلن في كل المواقع أنَّ أحداث الفيلم تدور في أحد الأحياء الشعبية في عمان.

لقد بدت التمثيليات التي نفذها (بهاء) سخيفة وكوميدية وبخاصة أنه نفذها بالمال الذي أخذه من غرفة (علي) بطريقة غرائبية، ولكن مشهد (بهاء) مع جد (علي) برَّر ذلك على نحو لا بأس به، فالهدف هو المحافظة على سمعة الأسرة، وتمكينها من العيش بشكل طبيعي في مجتمع يراقب كل فيه الآخر، ويسجل عليه كل شيء، وهي فكرة متصلة بالخيط الذي ينتظم القصة وهي الحارة.

لقد كان أداء الممثلين متميزا، كما أنَّ عين الكاميرا استطاعت أن ترصد مشاهد تمثل حارة شعبية في مدينة كبيرة بشكل جميل ومؤثر، غير أنَّ المخرج - المؤلف ما زال يظن أنَّ من حقه أن يتلاعب بالشخوص والأحداث كما يريد، متغافلا عن الافتراضات التي وضعها هو أصلا والتي لا يجوز تجاوزها إلا بمبرر يقبله المشاهد الجادُّ الذي لا يبحث عن التسلية وحسب، وإنما يبحث أيضا عن الترابط الدرامي والنمو المعقول للأحداث والشخصيات. 

الاثنين، 25 أبريل 2022

دموع النخب... دموع التماسيح

 

بقلم: علي طه النوباني

قلما أشاهد اللقاءات مع شخصيات من النخب السياسية، ولكن أحيانا تفرض عليك وسائل التواصل الاجتماعي مشهدا قصيرا لمسؤول كبير من هنا أو هناك.

يقول أحد وجوه النخبة السياسية ردا على أحد الأسئلة التي وجهها له المذيع حول حادثة مؤلمة حدثت معه: هل تريدني أن أبكي؟

والحقيقة أنني على الرغم من تعاطفي إنسانيا مع قصته - شعرت بدوار في رأسي وأنا أتساءل:

هل صحيح أن هؤلاء بشر مثلنا يبكون ويضحكون ويتعاطفون ويحبون ويكرهون؟

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يبكون على ما آلت إليه حالنا، وهي صنيعة تخطيطهم وإدارتهم ومشاركتهم بالفعل حينا، وبالتواطؤ والصمت حينا آخر.

ألا يرون معدل البطالة الذي يرتفع مؤشرة مثل الحرارة في شهر آب؟

ألا يرون عشرات الآلاف من الخريجين العاطلين عن العمل، والذين بلغوا حالة من الإحباط واليأس وخيبة الأمل التي تنبت في صحراء الظلم وعدم تكافؤ الفرص وقلة الضمير والتقريب الرياضي المبالغ به بين المئة والخمسين!

ألا يرون الأسر التي تآكل دخلها تحت وطأة الفقر المدقع، بعد وعودٍ كثيرة بالحياة الكريمة آلت إلى مصنع للتعاسة والبؤس!

ألا يرون إلى الفوضى العارمة التي أضاعت حقوق العباد، وأفشلت كل من حاول بصدق أن ينجح دون فساد ومحسوبية ومقايضات قذرة؟

ألا يرون إلى مصطلح العدالة الاجتماعية كيف تحول إلى مسخ في بلاد العرب التي ساحت فيها القيم على بعضها حتى لم يعد هنالك فرق بين الاجتهاد والكسل، والعدل والظلم، والليل والنهار، والحمامة البيضاء والوحش الكاسر.

لقد احتار المحللون في مسألة دموع التماسيح، ولكنَّ أقوى التحليلات تقول بأن التمساح يغص بجسم فريسته؛ فتنزل دموعه ليس حزنا، وإنما بسبب ضغط حجم الفريسة على حلقه وجوفة، ولا يسعني هنا إلا أن أتمنّى لكل فاسِد وظالم أن يغص الغصَّة الأخيرة؛ فلا يبقى له وقت لنرى دموعه التي ترفع ضغط ملايين المظلومين والمخنوقين بصمت المحافظة على الروح على امتداد أرضنا العربية المنكوبة بالتماسيح والوحوش.

 

 

السبت، 2 أبريل 2022

تشويه صورة المقاومة الفلسطينية في فيلم "صالون هدى"

 

بقلم: علي طه النوباني

قبل أن أشاهد فلم " صالون هدى"، تلقيت أكثر من استفسار؛ ليس عن الفيلم؛ ولكن عن مشهد ظهور "ريم" عارية بعد أن قامت الكوافيرة هدى بتخديرها ونزع ملابسها؛ ليتم تصويرها وابتزازها من أجل أن تصبح عميلة للموساد الإسرائيلي.

ويكفي أن نذهب إلى محرك البحث جوجل ونكتب كلمتي " المشهد المحذوف.." حتى يظهر لنا بقية العبارة على النحو التالي: من فيلم صالون هدى"، فأغلبية الجماهير التي تعلن احتجاجها على المشهد، تقوم بإغلاق غرفة ما، وتبحث عنه حتى حفظ محرك البحث سلوكهم معبرين بذلك عن واحد من تناقضاتنا المزمنة بين الشكل الصوفي الذي يفيض بالزهد والتقوى، والباطن العامر بالرغبات والحاجات (والدنيا الزائلة) التي لا يمكن إنكارها ذاهبين بهذا إلى ما قاله زهير بن أبي سلمى:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة         وإن خالها تخفى على الناس تعلم

هكذا استطاع مؤلف العمل ومخرجه إغفال المشاهدين عما بثه في الفيلم من أضاليل وخداع وركاكة درامية ظاهرة؛ وتزوير للحقائق؛ بحيث يمكن لكل من يتجاوز عن مسألة ظهور جسد "ريم" أن ينتبه للسقطات الكثيرة ويساعد الآخرين على النجاة من فخ الدراما الرخيصة غير البريئة التي تخدم مآرب العدو دون أن تتعمق بشكل متناسق في رؤية إنسانية تستحق المغامرة.

بعد أن قبضت المقاومة على الكوافيرة "هدى"، تقول "هدى" لمحقق المقاومة أنها تختار النساء اللواتي على خلاف مع أزواجهن لتساعدهن على الخروج من ظروفهن الصعبة، وهي بذلك تطرح رأيا غريبا مفاده أن الموساد الإسرائيلي يقوم بتمكين النساء الفلسطينيات اللواتي يقعن تحت قمع السلطة الأبوية للمجتمع (الأب، الزوج، الأخ، القبيلة، .....) من خلال الجاسوسية، وبالمقابل يبدو المحقق ضعيفا ركيكا وعاطفيا غير قادر على الرد على ما تطرحه "هدى"، بل إنه يقر بأن " مجتمعنا يحتاج إلى نفض" أي: تغيير شامل.

وتأكيدا لفكرة التمكين المزعومة؛ وفي الوقت الذي يكون مطروحا أمام "ريم" خيار إبلاغ المقاومة بأن ما حدث لها، حدث قبل يوم من القبض على "هدى"، وأنها لم تقم بشيء يجعلها عميله، فإنها تتجاوز عن ذلك؛ وتختار أن تتصل بمندوب الموساد لتطلب المساعدة من دولة الكيان، فيقول لها عميل الموساد "موسى" أنها لم تقدم أي معلومات بَعدُ للمخابرات الإسرائيلية وأنَّ دولة الكيان هي دولة قانون ومؤسسات، وهو بذلك إن عَنى أنه يتخلى عن "ريم" التي بَعد لم تُثبِت تعاونها، فهو يؤكد أنه يقدم الحماية لغيرها ممن أثبتن تعاونهن.

وحيث أن "ريم" تمتلك دليلا قاطعا على أنها لم تنخرط في العمالة، وهو أنها تعرضت للابتزاز قبل القبض على "هدى" بيوم واحد فقط، فإن تفضيلها الاتصال بمندوب الموساد على أن تتصل بالمقاومة هو إيحاء بأن المقاومة الفلسطينية غير عقلانية ولا تميز بين ظروف كل حالة على حدة. كما أنه يقول بشكل ضمني أن دولة الاحتلال بكل ما نعرفه عنها من إجرام وعسف أَرحمُ مِن المقاومة!

وفي مشهد غريب يقوم رجال المقاومة بالقبض على الشاب العميل الذي كان يساعد "هدى" في تصوير ضحاياها، ويقومون بإحراقه حتى الموت دون أن يخضع للتحقيق خلافا لما عرفناه عن المقاومة الفلسطينية من انضباط ووضوح في الإجراءات والعقوبات، فمن الموثق أن المقاومة تقوم بالتحقيق مع المشتبه بهم لأيام عديدة، وأنَّ عقوبة الموت تكون بالرَّميِ بالرَّصاص.

إذن، لماذا الحرق؟ إنها عملية ممنهجة في الفيلم للإساءة للمقاومة الفلسطينية، وكأن ضابطا في الموساد الصهيوني كتب السيناريو، وأخرج الفيلم!

تطلب "هدى" من المحقق أن يكون إعدامُها رَميا بالرَّصاص وليس شَبْحاً، وألا يكون الرصاص على وجهها. والعادةُ أنَّ الكلامَ في الدراما لا يكون عَفوَ الخاطِر، وأنَّ سكوتَ المحقق عليه يعني إقرارَه، فمن أين أتى صانعو العمل بفكرة أنَّ المقاومة تُعدم العملاء شبحًا أو رميا بالرصاص على وجوههم أو حرقًا؟

يعترف محقق المقاومة للكوافيرة "هدى" أثناء التحقيق أنه في طفولته ألقى حجرًا على سيارةٍ لشرطة الكيان، وقام بإرشاد جنود الاحتلال إلى بيت صديقه الطفل مُدَّعِيًا أنه هو من ألقى الحجر، فقاموا بقتل صديقه أمامه برصاصة في الرأس، أي أنَّه ضحى بصديقه لينجو بنفسه، وإذا ما تجاهلنا ركاكة فكرة اعتراف المحقق للكوافيرة هدى بحد ذاتها، فلن نستطيع أن نقفز عن سخافة فكرة أن تتبع سيارة الاحتلال طفلا صغيرا إلى بيته وتطلق النار على رأسه لمجرد أنه ألقى حجرا على السيارة، وإنما أراد صانعو العمل من هذه القصة الملفقة أن يصوروا المقاوم بأنه شخص ضعيف ومهزوز لا يمتلك منظومة قيمية ولا تقاليد راسخة.

تستغل "هدى" قصة المحقق لتجري مقارنة غير عادلة بينها وهي امرأة بالغة من جهة والمحقق وهو طفل من جهة أخرى فهي تضحي بصديقاتها من أجل أن تعيش، وهي مناوَرة أخرى من صانعي العمل لتبرير الخيانة بمقارنة غير محسوبة بين طفل صغير وسيدة يفترض أنها ناضجة من خلال قصة ملفقة توضع في فم المحقق.

تطلب "هدى" من المحقق أن يحضر لها ماء لتشرب، فيذهب هو شخصيا لإحضار الماء بينما تستغل هي الفرصة بإخفاء صورة "ريم" في صدرها، وعندما يكشف المحقق أمرها، تقول إن هذه السيدة بريئة دون أن توضح سبب براءتها مع أن السبب بسيط وهو أنه تم تصوير "ريم" قبل يوم من القبض على "هدى"، ولم يتضح أنها ستتعاون أم لا.

ومع ذلك، يتم تنفيذ الحكم بالموت على "هدى" دون أن تنطق بهذه الجوهرة!

هكذا، وكما هو الحال في الكثير من الأعمال الدرامية العربية، يتلاعب صانعو العمل بالشخوص كما يريدون هم، لا كما يريد منطق الأحداث وتفاعل الشخوص، إنهم يستخفون بالمُشاهد، ويسيئون إلى الدراما، ويقدمون مساهمتهم في تدهور أوضاعنا وصناعة الإحباط واليأس.

قبل خروج "هدى" لتنفيذ الحكم بالإعدام تمد يدها لتصافح المحقق، وهي مصافحة مقحمة على الموقف لا تعني شيئا على الإطلاق، فلا هي نالت تخريجا لأزمتها المعقدة بهذا اللقاء مع المقاوم؟ ولا هي اتفقت مع المقاوم فيما ذهب إليه؟ وإنما المصافحة هنا حركة مسرحية سخيفة لا تضيف شيئا إلى العمل سوى الإرباك والتشتت.

وكما هي الحال في الكثير من الأعمال الدرامية العربية يلجأ صانعو العمل إلى الصدفة، فعندما تنفد أسطوانة الغاز في اللحظة التي تحاول فيها "ريم" الانتحار بعد أن يتخلى عنها زوجها خوفا على طفلته من الطرفين: المقاومة والكيان الصهيوني في رسالة مبطنة تساوي بين المقاومة والكيان الصهيوني! وهي رسالة يختتم بها صانعوا العمل الفيلم إذ تتصل المقاومة بِ "ريم" مؤكدين لها أنَّهم أحرقوا الصورة، وأنَّهم يعرفون أنَّها بريئة، وأنَّ زوجها وابنتها بخير، ويريدون منها مساعدتهم في الوصول إلى عميل الموساد "موسى".

ينتهي الفيلم هنا موحيا بأن المقاومة تستغل أزمة "ريم" وما وقع عليها من ابتزاز وإساءة للوصول إلى عميل الموساد "موسى"، وموحِيًا أنَّ المقاومة في ذلك لا تختلف عن مخابرات الكيان مُسَلِّطًا الضوء على أزمة "ريم" التي تمَّ عَرضُها عَلى نَحو انتقائي تلفيقي مشوش، ومتغافلا عن أزمة شعب بأكمله يرزح تحت الاحتلال، ويمارس حقَّه المشروع في المقاومة.

هكذا إذن:

ريم تفضل أن تلجأ للموساد على أن تلجأ للمقاومة!

زوج ريم يخاف على طفلته الرضيعة من المقاومة!

المقاومة تحرق المشتبه بهم حتى الموت ودون تحقيق!

المقاومة تضغط على "ريم" للتعاون معها بنفس طريقة مخابرات الكيان!

لصالح مَن يحاول هؤلاء تشويه صورة المقاومة؟ وهل أبقت عجرفة الكيان الصهيوني وهمجيته لأي مثقف عربي هامشا ولو صغيرا للحديث عن خيار آخر غير المقاومة؟

هكذا هو فيلم صالون هدى: ظلمات بعضها فوق بعض، تَمَّ تصميمها مسبقا لتسريب عقل الهزيمة إلى المتلقي في ظل انشغاله بخرق تابو الجنس المسيطر على عقله منذ المشهد الأول. إنها تقنية مبتكرة ومحسوبة لصناعة عقل الهزيمة، وتفريغ المقاومة من كل بطولاتها وإنجازاتها لصالح عدوٍّ بات يغزونا من خلال صهاينة الداخل أكثر مما يستعمل أسلحته وقوته المباشرة.

 

 

 

 

 

 


الثلاثاء، 12 أكتوبر 2021

فيل يرتدي ربطة عنق صفراء! لماذا؟

 

بقلم: علي طه النوباني

2005-11-06

استمرت إحدى القنوات الفضائية العربية لأكثر من أربعة أيام وهي تتحدى مشاهديها الأذكياء بأن يجيبوا على السؤال التالي:" فيل يرتدي ربطة عنق صفراء! لماذا!!! " وقد بلغت الجائزة المعروضة لمن يعرف ما في رأس الحمار الذي وضع هذا السؤال ستين ألف دولار!

أنا شخصيا لا أريد أن أعرف لماذا ارتدى الفيل هذه الربطة الصفراء، ليس لأنني زاهد بالجائزة المغرية، وإنما لأن الجَمل العربي الأصيل المعروف بالصبر قد فقد هذه الصفة، وأصبح عصبي المزاج تائها في صحارينا المقفرة، بسبب طوفان التفاهة والرخص والصفاقة الذي يجتاح عالمنا العربي الواقف على حافة الهاوية، والذي يشغله التفكير في أسئلة من هذا الصنف ...

إن وجود ما يزيد على مئة فضائية عربية مختصة فيما يشبه قصة الربطة الصفراء يمثل اختلالا شاذا وعجيبا من حيث نوع الثقافة التي يعرضها لتصنع طريقة تفكير جيل بأكمله.

لماذا هذا النوع من الأسئلة على الرغم من أن واقعنا العربي زاخر بالأسئلة الصعبة بل المستحيلة، والتي بالتأكيد سيكون مجرد التفكير فيها باعثا على التقدم والعمل لا على التشتت والضياع.

وعلى سبيل المثال فلنتساءل على النحو التالي:

ـ أمّة تسكن في قلب العالم، وتمتلك ثروات تؤهلها لأن تكون في مقدمة الأمم، ومع ذلك تقف وراء ركب الحياة وتختار المؤخرة! لماذا؟؟

ـ أمّة تقتل مبدعيها ومفكريها، وتهجّرهم إلى أصقاع الأرض لينتجوا ويفكروا لغيرها من الأمم! لماذا؟؟

ـ أمّة تزعمت العالم يوماً ما بثقافتها الراقية، وفكرها العظيم، تُطلق قمراً صناعياً زاخراً بأكثر من مئة قناة فضائية؛ لتشغل الناس بأسباب ارتداء الفيل لربطة عنق صفراء! لماذا؟

 إنني أتحدى القائمين على مثل هذه القناة الفضائية ذات الربطة الصفراء أن يظهروا أمام الناس ليوضحوا لنا أسباب هذه التفاهة والصفاقة المفجعة التي تتجول بحرية في فضائنا العربي بدلا من مواجهة مآسينا التي تنوء بحملها الجبال.