الاثنين، 9 يوليو 2018

الإرهاب وإرهاب الدولة







بقلم : علي طه النوباني


إذا كان الإرهاب اعتداءً على حياة المدنيين الآمنين الأبرياء ، وعلى حقهم الحر والطبيعي في الحياة في بيئاتهم الاجتماعية وكياناتهم السياسية ، وإذا كان الإرهاب أيضا كارثة تتهدد إنجازات الحضارة والمجتمع  المدني والديمقراطيات العريقة ، فلماذا لا نفرش أوراقنا على مائدة الحوار بحثاً عن سرِّ هذه المأساة التي تضعنا في دائرة العنف والعنف المضاد وفي سلسلة لا حصر لها من المآسي التي تطال بالفعل منجزات إنسانية يؤلمنا فقدانها على الرغم من أننا لم ننعم بغالبيتها العظمى حتى الآن  ‍‍‍‍!
لا أعتقد أن العالم الذي يسمي نفسه متحضِّرا وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لا يعرفون أن هؤلاء الذين يطلقون عليهم تسمية إرهابيين  ؛ إنما هم نتاج طبيعي لإرهاب الدولة الذي مورس عليهم  ـ ولا يزال ـ عبر عقود طويلة  من الاسـتفراد بالســلطة ونهب الثروة والتجويع والتخويف ، بل والتعذيب والمرارة ، إنه نتاج شاذٌّ لدولٍ متطرِّفةٍ في الشذوذ والدوغمائية ، عاملت الإنسان بأقلَّ مما تستحقُّ الحيوانات والحشرات ، واستقوت على إبداعاته الاجتماعية والحضاريَّة التي راكمها منذ آلاف السنين.
لقد تشكلت الدولة  في البلاد العربية على معيار الولاء كنقيض لمعيار الكفاءة والإبداع كما يقول برهان غليون فكانت نموذجا في الشذوذ والتشوُّه وبدت أشبه بالعصابة منها إلى الدولة ، تفكر عن مواطنيها وتضع البدائل والخيارات على هواها نيابة عن الأغنام المحشورة في زرائب الذل والمهانة حتى لقد هرب كل ذي عقل خارج المعتقل العربي الكبير ، ومن لم يستطع بقي يغالب الموت ويعاني اختناقا  لا يطاق  ، وبدت له أكثرُ بؤر التوتر في عالمنا العربي ( العراق وفلسطين ) أكثرَها إشراقا وانفتاحا على المستقبل بالرغم من واقعها المرير والمؤلم ، فأن يكون هنالك احتمال للموت مقابل مستقبل مسكون بالأمل خير من أن يبقى شعب كامل يرزح تحت وطأة الذلِّ والمهانة وإلى الأبد ـ كما بايع الحكام العرب أنفسهم ـ .
بهذه المزارع العربية التي تســمى دولاً فاز المتســلقون والأفاقون وانعزل المبدعون  والمفكرون ... والأرضُ التي أبدعت للإنسانية بعض أعظم إنجازاتها، تم تسميمها ببذور العقم والأحادية والانغلاق وضيق الأفق ،فلم تعد تتسع لأيِّ رأيٍ غير رأي الحاكم المتألِّه الذي يمنح ويمنع ويحيي ويميت ويستطلع الغيب ويحتكر الحقيقة .
حدث هذا ويحدث في نفس المدن الأسطورية التي كانت عواصم العصور الوسطى وعلى رأسها حاضرة الخلافة التي اتسعت اذاك لكل ألوان الحياة من التجار والزهاد، ورجال الدين والفلاسفة، والأديان السماوية وغير السماوية ،وحتى أصحاب الخمارات والمواخير  ليأتي حاكم موتور  على بغداد الحلم يتحرَّش بالهواء الذي يمرُّ قرب وجهه وينصِّب نفسه وصيّا على ملايين العقول ويقتل مئات الألوف منهم في حروب فاجرة لا تنم عن عقل يُسيِّرها ولا منفعة تجلبها سوى تحقيق ذلك الجنون الخبيث الذي يسكن عقله والذي يشكل حالة نموذجيّة لتلك الكيانات التي ساندها العالم الذي يسمي نفسه متحضرا ، فحقق بعض مآربه من خلال جبابرتها،وسـكت بالمقابل عن جرائمهم التي وجهوها إلى شـعوبهم فحوّلوا الكثيرين منهم إلى حالة كارثية من اليأس والإحباط ،وإلى شكلٍ غريبٍ من الدمويّة التي تناقض كلَّ أشكال الحضارة والمنطق.
لم يكن العالم الذي يسمي نفسه متحضرا ً يعمل بصدق من أجل القيم الإنسانية الرفيعة التي نادى بها ، ولم تكن الديمقراطية وحقوق الإنسان السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية المحرِّكَ وراء حروبه التي خاضها ولا صداقاته التي دافع عنها ،ولذلك أسقطت أمريكا نظام الحكم الديمقراطي في تشيلي وكادت أن تفعل نفس الشيء في فنزويلا ، وكان أقرب أصدقائها العنصريُّ المجرم شارون ، والكيان الصهيونيُّ المشؤوم، بل إنّ كثيراً من التسريبات تشير إلى أنَّ الولايات المتحدة تلجأ  إلى صديقاتها من الدول التي صنعت الإرهاب بدكتاتوريتها وإجرامها من أجل تعذيب من تسميهم إرهابيين . 
ما الذي يمكن أن تلده مثل هذه الأجواء ...
يستفرد الحاكم بالسلطة طوال العمر معجبا بألوهيته الكاذبة وقراراته التي يسميها حكيمة ، وبدلاً من استلهام التجارب الناجحة في توظيف حريَّة الإنسان للبناء والخير والسلام والعدالة ، يمصُّ دماء الناس لبناء المعتقلات  وإحكام قبضة أجهزته الأمنية بأحدث وسائل القمع والتخنيث ، وبعد عقود طويلة يقف أمام الشعب :
(  أحبائي :
لقد حاولت أن أوصلكم إلى برِّ  الأمان  ، ولكنَّ المأساة تفاقمت ، والديون تراكمت ، فهلمّوا للصِّيام كي نسدِّد فواتير المقامرات الرخيصة ، والليالي الخسيسة ، وكلفة إطعام الذئاب الجائعة لئلا تأكل الأغنام الراكعة.
أحبائي :
تعرفون أن جدران الزنازن  في غاية الصلابة ، وأنَّكم ولو كنتم في بطون أمهاتكم فإنَّكم تحت الرقابة ، وإنَّ عندي من الانتهازيين والأنذال من يملكون آلاف الوسائل والطرق لتسديد فواتيرنا من دمائكم ، وتحبير شـــيكاتنا من دموع عيونكم ، وكتابة مسـتقبلنا الزاهي من أحلام أطفالكم الصـغيرة ، فإذا كان بينكم من يرفض الإذعان لرؤيتنا الحكيمة فليجرب أن يرفع رأســه ويسـتعمل لسانه ) .
وإذا كنا نعرف أن مؤسـسـات الاسـتعمار البوليسية والبيروقراطية هي التي سلمتنا إلى هذا الحال ، وعينت وكلاءها قبل ترحيل الجيوش  فماذا عسى أن يلد مثل هذا الواقع ، هل تنتظر أمريكا أن يتفتق عقل العبيد عن اختراعات تُغيِّر مجرى التاريخ كالآلة البخارية مثلا ،أو النظرية النسبية أو الحاسوب .
إنَّ الكبت يولد الانفجار ، والانغلاق يولِّد العشوائية والدمار ، والحضارةُ التي تحرم أناسا من الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتمنحها  لآخرين دون حساب هي التي بهذا السلوك تلد نقيضها ، وهو اليأس والإحباط والأحادية المغلقة التي لا يمكن لها أن تستوعب الآخر أو تقبل بالحوار الذي لم تتعود عليه في يوم من الأيام .
أيها العالم الذي تسمي نفسك متحضراً:
تَذكَّر
لقد ولدنا في دولٍ لا صوتَ فيها غير صوت الحاكم ، ولا رأي فيها غير رأيه ، ولا لون فيها غير لون دم المقهورين المسكوب في شوارع اليأس والإحباط ، ولا أعتقد أننا سنحصل على جائزة نوبل عن هذا الاختراع المرعب الذي نُقدِّمهُ للحضارة ( الإرهاب ) ، هذا الذي أوجدتموهُ  أنتم بإصراركم الشديد على مساندة إرهاب الدولة الذي ما زلنا نرزح تحت وطأته منذ عقود طويلة ، وبما تبدونه من انحياز واضح وصريح للكيان الصهيونيِّ العنصريّ الذي يأتي بكلِّ ملابسات نشوئه وتطوُّره مناقضاً لكلِّ القيم الإنسانية التي تعارفنا عليها .
ولكن حتما سيحصل مبدعوكم أيها العالم المتحضر على كل الجوائز عن اختراعاتكم العظيمة في مجال تعزيز ودعم إرهاب الدولة الذي مورس علينا عبر عقود طويلة بدعمكم ومباركتكم ، فقتل فينا روح الإبداع إلا في مجال الشر  والكراهية ، ولم يبق من إنسانيتنا سوى هيكل بشري  مقموع وبائس ، ومسكون بروح الكراهية والانتقام .
فشكراً لكم ......... وشكراً للحضارة .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق